تجربة في معرض جدة للكتاب 2024- آمال وملاحظات

المؤلف: نجيب يماني10.26.2025
تجربة في معرض جدة للكتاب 2024- آمال وملاحظات
في كل حول، عندما يصدح نداء المعرفة والثقافة داعيًا إلى الإقبال على الكتاب، كنت أستجيب بشغف جم وأتوجه صوب مصدر الصوت، ومحط النداء، وميدان الصدى، من بداية المعرض حتى نهايته.. إلا أن هذا العام كان مختلفًا؛ إذ حالت آلام الظهر القاسية دون حضوري افتتاح معرض جدة للكتاب 2024، في حلته الزاهية، واشتقت لزيارته، بينما كانت الأخبار تتوالى متباينة في التقييم، ومتنوعة في وجهات النظر.. فقهرت أوجاعي، وانطلقت قاصدًا المنبع والمورد. من بعيد، لاحت لي قبة "سوبر دوم" متلألئة، وكأنها استعارت من شمس الأصيل الذهبية حلة، فنشرت أشعتها في الآفاق.. أوقفت مركبتي في المواقف المخصصة، لكني شعرت ببعد المسافة بينها وبين مدخل المعرض ذي البوابات المتعددة. تحملت مشقة كبيرة لبلوغ المدخل، تحت أشعة شمس جدة الملتهبة، وما زاد من وطأة ألمي هو التجهم غير المعهود الذي ارتسم على وجوه المستقبلين من الشباب والشابات، بالإضافة إلى تعقيدات الدخول، التي تتطلب إبراز بطاقات تحمل تطبيقات تقنية لم أعتد عليها، ولا يعرفها الكثيرون من أمثالي، ولم أجد لذلك مسوغًا، خاصة أمام كبار السن والمتقاعدين، الذين أعتبرهم الفئة الأكثر اهتمامًا بالمعرض – في تصوري – والأكثر إنفاقًا على شراء مختلف الإصدارات التي تجمع بين المعارف والثقافات المتنوعة. تجاوزت كل ذلك، وأطلقت ناظري في رحاب المعرض.. هنا آلاف العناوين؛ القديم منها والحديث.. هنا ألف دار نشر تمثل (22) دولة أتت لتعرض نفائسها؛ ويا لها من نفائس.. بدا لي وكأن هذه العناوين ترفع لي لواء التحية، وتدعوني إليها، وكأنها تدرك مدى شوقي للكتاب، ورغبتي الجامحة في اقتنائه، حتى لكأنك تظن أنني أعاني من أعراض الـ "ببلومانيا (Bibliomania)"، لولا أنني أقرأ ما أشتريه، ولا أقتنيه للتباهي، أو ليظل حبيسًا في مكتبة يعلوه الغبار.. أو كأنها تعلم مدى تقديري للكتب، وتعظيمي لشأنها، وإدراكي لما قاله الأديب الجاحظ في "الحيوان" مادحًا الكتاب ومثنيًا عليه بأنه: "الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يملُّك، والجار الذي لا يستبطئك".. فكيف يستبطئ المرء اقتناء من اجتمعت فيه هذه الصفات في هذا الزمان العجيب! حركت قدمي إلى وسط القاعة، فتضاربت في نظري الاتجاهات، بالرغم من وجود علامات ولافتات إرشادية بأحدث التقنيات، لكني اتبعت بوصلة قلبي فحسب، وفي خاطري تتردد أسماء لدور نشر وكتب بعينها، جئتها ساعيًا للود، وطالبًا للوصال، و"العقاد" في أعماق وعيي يثير في ذهني قوله الفلسفي العميق: "نحن نقرأ لنبتعد عن نقطة الجهل لا لنصل إلى مرحلة العلم"..! تجولت في المكان قدر ما سمحت لي اللياقة، وأسعفتني قدماي، ثمة أمر مستجد هنا يا "كتاب جدة" لم يكن موجودًا في مواسمك السابقة، غاب من أعرفهم بعلو نتاجهم الفكري والأدبي، وحضر آخرون يحتاجون إلى مغامرة الاكتشاف، خاصة عند "ركن المؤلف السعودي"؛ أقلام فتية يانعة، يقف أصحابها بثقة من خبر الكتابة وأتقنوا عالمها وسبروا أغوارها، ولكن، شعرت بالخوف عليهم، عندما بدا لي أنهم إلى "الغرور" أقرب من الطموح والتحفز، فمن يا ترى يأخذ بأيديهم إلى طريق النجاة!؟ ثمة شيء جديد هنا يا "كتاب جدة"، فقد اختفت عن الكتب محددات الأسعار، وتُركت "المساومة" بين البائع والمشتري لحسم الأمر في النهاية، ومن خرج راضيًا بما اقتناه، كان عليه أن يقطع نفس المسافة الطويلة وهو مثقل بكتبه ومعارفه، ليصل إلى سيارته وقد بلغ منه التعب مبلغه، وأضناه الحمل الثقيل، بينما شمس الأصيل ترسل أشعتها لتفاقم حرارة الجو ورطوبة المكان، ولا استثناء. ثمة شيء مستحدث في موسمك هذا العام يا "كتاب جدة"، فقد جُهز صالون الاستقبال الكبير بكل الوسائل اللوجستية، ولكن عندما أوشكت على الدخول لتنعم بقسط من الراحة وأنت تتنقل بين أروقة المعرض، وعناوين الكتب، استقبلتني نفس الوجوه المتجهمة، بعبوس لا يليق بالمكان، وطُردت من حيث أتيت، فالاستراحة مخصصة لكبار الزوار فقط، وممنوعة حتى على كبار السن والمتقاعدين، وهم الأحق بالعناية والرعاية! شربة ماء وفنجان قهوة وواجب ضيافة مستحق. ثمة مشهد جديد في موسمك هذا العام يا "كتاب جدة"، مع هذا الحضور الشبابي المتفاعل مع عالم "المانجا" وركن الطفل، والورشة التعليمية المفعمة بالحياة، وللتقنية تأثيرها الواضح، والذكاء الاصطناعي حاضر بكل ما يثيره من جدل، والمسرح الرئيسي يعج بالفعاليات.. مما يستدعي توجيه الشكر الجزيل والثناء العطر لوزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والنشر على هذا الموسم، بكل ما سجلته من ملاحظات، لكن يبقى لـ "كتاب جدة" في القلب مكانة خاصة، فإن أمد الله في العمر فسيكون اللقاء في العام المقبل، وسيكون ما اقتنيته هذا العام زادي وعتادي، فأنا على رأي العقاد: "لست أقرأ لأكتب؛ وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرّك كل ما في ضميري من بواعث الحركة. القراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمري الإنسان الواحد؛ لأنها تزيد هذه الحياة من العمق، وإن كنت لا تطيلها بمعيار الحساب".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة